الكتاب المسيحي

الشركة في حياة الله – أوليفيه كليمانت

5452369381

+ دعوة الإنسان العُليا هي: أن يحقق الإنسان كمال بشريته بأن يصير إلهاً بالنعمة، أي أن يكون مشاركاً بملء كيانه في حياة الله، جاعلاً من بشريته هيكلاً للمجد الإلهي، المجد الذي يطرح الموت خارجاً، بل بالأحرى يحوِّله إلى ما هو ضدّه؛ إلى حياة دائمة غير قابلة للفناء.

+ الإنسان صورة الله، ينبغي أن يبلغ إلى التماثل بالله. هذا التماثل هو في آن واحد، التلاقي والمشاركة، والتوافق والإنسجام التام مع الله في أقانيمه العاملة في خلقة الإنسان وفي عمل تجديد الإنسان أيضاً بالتجسيد وعمل الفداء.

[الإنسان كائنٌ حي أرضي، نال نعمة خاصة ليصير إلهاً.](1) القديس باسيليوس الكبير

[كل كائن روحي، قد أُعِدَّ ليكون هيكلاً لله، وجُبل ليقبل في طبيعته مجد الله.](2) العلاَّمة أوريجانوس

[هكذا كان التدبير الإلخي في خلقة الإنسان وجَعْله على صورة الله وشَبَهِه غير المخلوق: الآب يُدبِّر، والابن ينفذ ويشكّل، والروح القدس يغذي وينمي الإنسان ليتقدَّم تدريجياً.](3) القديس إيرينيئوس


+قصة خلق الإنسان هذه أخذت بُعداً مأساوياً «بالسقوط» و«الفداء»، ولكن تقدُّمها الأساسي نحو غايتها المنشودة لم يتوقف أو تغير.

[كان لابد للإنسان أن يمر بهذه المراحل حتى يبلغ إلى الهدف النهائي من خلقته: فأولاً هو قد جُبِل؛ ثم نما وكبر حتى بلغ سن الرشد؛ ثم تناسل وتكاثر؛ وإذا تكاثر تقوَّى؛ وإذا قَوِيَ اعتزَّ وتكرَّم؛ وبعد أن تكرم رأى ربَّه. لأن… رؤية الله تؤدي إلى الخلاص من الموت والانعتاق من الفساد؛ وهذه الحالة تُعبِّر عن بلوغ الإنسان إلى الاتحاد بالله.](4) القديس إيرينيئوس


+ الإنسان كائن يحيا في نطاق يقع بين المنظور وغير المنظور، بين عالم المادة والجسد وبين عالم الروح والروحانيات، في حالة تجسُّد كوسيط بين الخليقة والخالق. النزوع نحو هذه الغاية موجود أيضاً حتى في الأديان والمذاهب غير الكتابية (أي التي هي خارج الكتاب المقدس)، كما في الآداب والمعاصرة، وفي العلوم، وفي الفنون. ولكن في هذه كلها نجد هذا النزوع محدوداً وقاصراً: فإما هي مستغرقة في الإلهيات، وإما مؤكِّدة على الجانب البشري (المادي والطبيعي) ومُعْرِضَة تماماً عن الجانب الروحي. أما «تجسد كلمة الله» فقد كشف الرية وافتتح الطريق أمام الإنسان ليرى مصيره المُلهم ذا القوة الخلاَّقة.

[الفنان الأعظم المبدع للكون قد صمم (في فكره الإلهي) وأخرج للوجود كائناً حيّاً يتميز بطبيعتين: إحداهما مرئية والأخرى لا مرئية. فالله قد خلق الإنسان مشكِّلاً جسده من المادة الهيولية التي قد سبق فأوجدها من قبل، ثم بعث فيه الحياة بروحه القدس… وهكذا برز إلى الوجود –على نوع ما- كعالم كوني جديد، صغير وعظيم في نفس الوقت، ثم أقامه الله على الأرض ليكون سيداً عليها… هذا الكائن الحي جُبِلَ من طبيعتين حتى إذا ما تأمل بعمق في المنظور يدرك من خلاله غير المنظور، وهكذا يملك على كل خلائق الأرض، وفي نفس الوقت يكون مطيعاً لأوامر السماء.
إن هذا المخلوق العجيب يجمع في كيانه، في نفس الوقت، بين واقع أرضي وحقيقة سماوية، بين ما هو غير ثابت وما هو خالد، بين المرئي وغير المرئي. هو وَسَطٌ بين العظمة والعدم، فهو: جسد وروح… كائن حيواني أرضي ولكنه ينزع ويتطلع إلى وطن أفضل، إنه يبلغ غايته ويكتمل سره عندما يصير متمثِّلاً بالله، بتوافقه التلقائي مع المشيئة الإلهية وارتضائه بها تماماً بنية خالصة.](5) القديس غريغوريوس النزينزي

+++

+ الإنسان مدعو لأن يحمل الكون كله في كيانه وأن يضع الخليقة بكاملها في وعيه ويشملها بحبه، حتى ينوب عنها في تقديم الصلاة شكره السرية (القلبية) لله. ولكي يحددها بعبقريته الخاصة ومهارته معطياً «لكل مخلوق حي اسمه» كما يقول سفر التكوين. إنه «كَونٌ صغير وإله صغير» (كما يقول القديس غريغوريوس النيصي). أي أنه كائن مادي روحي في نفس الوقت، أرضي وسماوي.

+مكسيموس المعترف (أحد آباء الكنيسة البيزنطية بعد القرن الخامس) يتعمق كُنه الإنسان، فيفضل أن يصفه بأنه: «Macrocosme = (كون كبير)»، لأنه يفوق كل عظمة الكون المنظور، من حيث أنه أُبدِع على صورة الله. ولأن الكائن البشري يفوق ويكبر سائر الخلائق الأخرى المنظورة؛ لذا وُضِع على عاتقه مسئولية العناية بها (من حيوان ونبات وجماد) حتى يساعدها على استمرارية الحياة.

+ الإنسان في الواقع –وبحسب أقوى تعبير عند القديس غريغوريوس النزينزي- يحيا «بنَسْمَةٍ منبعثة من اللاهوت»، تحتضنه وتنميه وتقوده وتمنعه من أن يلتصق التي جُبل منها. «ماهيَّة الإنسان تفوق للغاية كل حدود منطقية بشرية»، كما كان يقول الفيلسوف بسكال. لا شيء أرضي، مهما كان، يقدر بأي حال أن يجعله كتفياً وراضياً أو متوقفاً عند حدٍّ.

+ لم يكف الآباء عن أن يمجدوا هذه الرفعة الإلهية التي بلغ إليها الإنسان، وهذا «العمق اللانهائي» لكيانه البشري الذي صار هيكلاً مقدساً لحلول الله. فالإنسان هو على صورة الله، في أنه يفوق كل تعريف على مثال الله نفسه.

[الصورة لا تُدعى صورة حقيقية إلا إذا حازت كل صفات مثالها… والمسة المميزة للاهوت أنه غير ممكن إدركه أو فهمه بالعقل: كذلك صورته أيضاً ينبغي أن تكون مُعَبِّرة عنه. أما إذا أمكن استيعاب جوهر الصورة في حين أن مثالها يفوق كل إدراك، فهذا الاختلاف يلغي واقع الصورة نفسها وحقيقتها. ولكن نحن لا يمكننا أن نبلغ إلى تحديد طبيعة بُعدنا الروحي، الذي هو على صورة خالقنا تماماً… وهذا هو ما نحمله من السمة غير المدرَكة التي للاهوت عن طريق السر الحالِّ فينا.](6) القديس غريغوريوس النيصي

+++

+ يمكن بالمثل أن يُقال إن الله بالتجسد صار موطناً دائماً للإنسان، فصار وجود الإنسان بالتالي يفوق كل حدوده في هذه الحياة المنظورة: سواء الطبيعية أو الإجتماعية أو النفسية، وذلك لأنه هو أيضاً أصبح موضعاً لسُكنى الله، الذي صار «يوجد ويحيا ويتحرك» في رَحْبِه اللانهائي…

[إعلم أنك عالَمٌ كوني آخر، كونٌ مُصغَّر، وأنه يوجد فيك شمس وقمر بل ونجوم أيضاً، ولو لم يكن الأمر هكذا… ما قال الرب لتلاميذه: ’’أنتم نور العالم‘‘ (مت 14:5). فهل تتردد بعد بأن تصدق أن فيك شمساً وقمراً، حينما يُقال لك إنك ’’نور العالم‘‘؟ أتود أن أسوق لك كلمة إلهية أخرى حتى لا تستصغر نفسك أو تستهين بهذه الحقيقة؟
هذا الكون (البشري الصغير) له سيد عظيم يحكمه ويقيم فيه، هو الله الكلي القدرة، كما أعلن هو نفسه على فم أنبيائه: «أما أملأ أنا السموات والأرض، يقول الرب؟» (إر 24:23)
فاسمع ما يقوله الله الكلي القدرة عنك –أعني عن البشر جميعاً: «إنني سأسكن في وسطهم، وأسير معهم» (2كو 16:6). ثم يضيف هذا الذي يعنيك بالأكثر: «وأكون لهم أباً، وهم سيكونون لي بنين وبنات، يقول الرب.» (2كو 18:6)](7) العلاَّمة الإسكندرية أوريجانوس

[كلمة الله تناول جزءاً صغيراً من الأرض التي أبرأها حديثاً، وصاغ بيديه الأبديتين جُبْلتنا البشرية وبث فيها الحياة: لأن النسمة التي بعثها في الإنسان هي انبثاق من لاهوته المستتر اللامنظور. وهكذا من التراب ومن نفخة القدر أُبدع الإنسان على صورة الحي الأبدي… فبصفتي من الأرض أجد نفسي مرتبطاً بالحياة الحاضرة، ولكن لأنني أحمل أيضاً في كياني قبساً من الألوهية، لذا أجد قلبي منشغلاً بالتوق إلى الحياة الأبدية الآتية.](8) القديس غريغوريوس النزينزي

[اعرفْ مقدار المجد الذي كرَّمك به بارئُك فوق كل الخليقة. فالسماء لم تُجبل على صورة الله، ولا الشمس بعظمتها ولا النجوم ببهائها، ولا شيء مما يمكن أن يُرى في سائر الخلائق. ولكن أنت وحدك (كإنسان) الذي أُبْدِعْتَ على صورة الحق الذي يفوق كل إدراك عقل، وعلى مماثلة بهائه الذي لا يبلى، على طابع لاهوته الحقيقي؛ على أن ترث فرح مجده وتنعم بنوره إلى الأبد. لأنك عندما تتطلع إليه ستثير على ما هو عليه.. لا يوجد شيء بين الكائنات الأخرى مهما عظم يمكن أن يُقارن بهذا السمو الذي بلغتَ أنت إليه. لأن الله الكلي القدرة الذي يقيس السماء بشبره والأرض والبحر هما في قبضة يده، ومع أنه كلي العظمة بهذا المقدار حتى إنه يحمل الخليقة كلها ويحتويها على كفه، تنازل هو إليك وحل في قلبك، فأمكنك أن تحتويه في داخلك، وارتضى أن يسكن فيه دون أن ينحصر أو يتضايق لسريانه في كيانك، فهو الذي قال: «سأسكن فيهم أسير بينهم.» (2كو 16:6)](9) القديس غريغوريوس النيصي

+++

 

ترجمة وإعداد: رهبان دير القديس أنبا مقار
مقالات مُترجمة عن كتاب:
SOURCES: Les Mystiques Chrétiens des Originess (منابع الروحانية المسيحية في أصولها الأولى). للفيلسوف الفرنسي المعاصر والعالم الآبائي أوليفيه كليمانت Olivier Clément
الناشر: دار مجلة مرقس
الطبعة الأولى: 1944
مقالات سبق نشرها في مجلة مرقس أعداد من شهر سبتمبر إلى ديسمبر 1989